هل يمكننا أن نحظى بعملة نقدية عالمية واحدة؟
لقد طُرحت فكرة تبنّي عملة عالمية منذ مدّة طويلة، لكن تطبيق هذه الفكرة على أرض الواقع لا يزال حتى يومنا هذا أمرًا بعيد المنال. ولعلّك تتساءل ما الذي نقصده بالعملة العالمية، أو إن كان لاستخدامها منافع معيّنة لا يوفرّها نظام استخدام عملات مختلفة. سيقدّم لكم مقال تعلّم اليوم الإجابة الشافية عن هذه الأسئلة.
ماذا نقصد بالعملة العالمية؟
العملة العالمية كما يعبّر عنها اسمها، هي عملة نقدية مقبولة ومستخدمة في كلّ مكان. والتي يجب أن تأتي نتيجة اتفاقيات تُعقد بين مختلف الحكومات في العالم لاستخدام نظام مالي موحّد. يمكن القول أنّها "يورو" إلزامي لكلّ دول العالم، وممّا لا شكّ فيه أنّ فكرة العملة العالمية قد تعزّزت كثيرًا إثر النجاح الذي حقّقه اليورو. وممّا لا شكّ فيه أنّ استخدام عملة عالمية قد يؤدي إلى تحسين التجارة العالمية نظرًا لأن الأمر سيصبح أشبه بإجراء المعاملات التجارية المحلية.
يتطلّب إنشاء عملة عالمية موحّدة، تأسيس اتحاد نقدي عالمي بمقدوره حلّ الأزمات المرتبطة بالعملات وتجنّب المخاطر الاقتصادية. ليس هذا وحسب، إذ ستقع على عاتق هذه المنظّمة الدولية مسؤولية ضمان الالتزام بالقواعد، ومعالجة أيّ مشاكل قائمة أو ناشئة فيما يتعلّق بطريقة التعامل مع العملات وذلك بهدف تمكين التجارة العالمية وتقييم النظام الضريبي في الدول المختلفة.
عند الحديث عن العملة العالمية، قد يتبادر إلى ذهنك السؤال التالي: أليس الدولار الأمريكي عملة عالمية بالفعل كما هو الحال مع كون اللغة الإنجليزية لغة عالمية؟
في واقع الأمر، يشبه الدولار الأمريكي اللغة الإنجليزية إلى حدّ كبير، فهو مستخدم على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، لكن بشكل طوعي. صحيح أنّ البعض مجبر على استخدام اللغة الإنجليزية، ولكن ذلك يعود لأنهم اختاروا بأنفسهم الظروف التي تجبرهم على ذلك، كأن يسعوا لبناء علاقات تجارية. فدول العالم ليست مجبرة على تعلّم اللغة الإنجليزية لكنها تختار فعل ذلك نظرًا لرغبتها في الوصول إلى أمور باللغة الإنجليزية.
وكذلك الحال مع الدولار الأمريكي، صحيح أنه ضروري للعديد من دول العالم، لكن استخدامه ليس إجباريًا بعكس اليورو الذي يعدّ العملة الرسمية لأعضاء الاتحاد الأوروبي حيث حلّ محلّ العملات المحلية المستخدمة في تلك الدول. أما الدولار فهو مستخدم من قبل العديد من الدول التي تحتفظ باحتياطي منه نظرًا لأن قيمة عملاتها مرتبطة به.
وفيما يلي نبذة تاريخية موجزة لكيفية تحوّل الدولار الأمريكي إلى معيار صرف العملات الأجنبية:
اعتمدت معظم دول العالم فيما مضى على الذهب كمعيار لصرف العملات، إذ يتمّ ربط العملات الأجنبية بقيمة الذهب. إلاّ أنّ هذا النظام لم يعد مناسبًا للتجارة الدولية مع مرور الوقت، الأمر الذي دفع عددًا من الحكومات إلى التوصل في نهاية المطاف لعقد اتفاقية بريتون وودز Bretton Woods سنة 1944، والتي مهدت الطريق لأن يصبح الدولار الأمريكي معيارًا لتحديد قيمة عملة البلد. هكذا سُمح للدول التي كانت أطرافًا في الاتفاقية بدعم عملاتها بالدولار بدلاً من الذهب.
بناءً على ما سبق، فالدولار الأمريكي ليس عملة عالمية وإنما عملة شائعة الاستخدام عالميًا تعمل كأساس لتحديد أسعار صرف العملات الأجنبية. وحتى يصبح عملة عالمية يجب أن يتمّ استخدامه من قبل كلّ دول العالم أو "أغلبها" وأن يحلّ محلّ العملات المحلية في تلك الدول، فلا يبقى هناك حاجة لتحديد أسعار صرف العملات الأجنبية أو لتحويلها.
يعتقد البعض أنّ عملة البيتكوين Bitcoin تمتلك فرصة أفضل لتصبح عملة عالمية، لكن لازال من المبكر تحديد ذلك، خاصّة بعد أن فقد الكثيرون اهتمامهم بالعملات المشفرة إثر انخفاض سعر البيتكوين الملحوظ.
اقرأ أيضًا: ما هو انترنت الاشياء وما هي كيفية عمله
اقرأ أيضًا: تعرف على تخصصات انترنت الاشياء واشهر وظائفه
اقرأ أيضًا: تعرف على توقعات بيل غيتس للمستقبل !
اقرأ أيضًا: علم الروبوتات وتخصصاته الحالية ومجالاته المستقبلية
ما هي إيجابيات استخدام عملة عالمية؟
يمكن تلخيص ايجابيات استخدام عملة عالمية موحّدة حول العالم فيما يلي:
1- تسهيل التداول وتبسيطه
في حال تمّ استخدام عملة عالمية، لن يكون هناك حاجة لتحويل العملات الأجنبية، الأمر الذي سيجعل من التداول عملية سهلة وقليلة التكلفة أيضًا. إذ سيتم التخلص من تكاليف تداول العملات الأجنبية وكذلك من مخاطر تغيّر سير العملات المختلفة. لكنّ الترجمة المالية ستظلّ قائمة نظرًا إلى الحاجة الملّحة لترجمة البيانات المالية أو السجّلات المستخدمة من قبل رجال أعمال وحكومات ناطقة بلغات مختلفة.
2- القضاء على التلاعب بالأسعار
ممّا لا شكّ فيه أنّ استخدام عملة عالمية سيقضي على التلاعب بالأسعار. إذ أنّ استخدام عملة واحدة في جميع أنحاء العالم، سيجعل من حيلة "تخفيض قيمة العملة المصطنعة" بلا أيّ جدوى، وبالتالي لن يتمكّن المصدّرون من التلاعب بأسعار سلعهم. حيث يقصد بتخفيض العملة المصطنعة أن تقوم بعض الدول بخفض قيمة عملاتها عن قصد، لجعل أسعار سلعها تبدو أقلّ مقارنة بأسعار المصدّرين الآخرين ممّا يجعلها أكثر جاذبية للأسواق الأجنبية. ليس هذا وحسب، فالعملة العالمية ستقضي بلا شكّ على تجار العملات المضاربين الذي يفكّكون أسواق المال الدولية.
3- التخلّص من مشكلة التضخم الجامح
يُعرّف التضخّم الجامح أو المفرط "Hyperinflation" بأنّه أحد أنواع التضخم الذي يحدث نتيجة زيادة عرض النقد في السوق مما يؤدي إلى انخفاض قيمتها الشرائية، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة في الأسعار بمعدّل قد يصل إلى 50% شهريًا أو أكثر. حيث تصل أسعار السلع المختلفة إلى أرقام فلكية، وتصبح النقود بلا قيمة تقريبًا.
يعتمد التضخم الجامح في الغالب على الأوضاع السياسية والاقتصادية المحلية، لذا فإنه في حال تمّ استخدام عملة عالمية، ستُحدَّد في هذه الحالة قيمة العملة لجميع الدول، وبالتالي فلن تؤثر عليها الظروف المحلية أيًّا كانت.
ما هي عيوب استخدام العملة العالمية؟
على الرغم من جوانبها الإيجابية، إلاّ أنّ إنشاء عملة عالمية له جوانب سلبية أيضًا، تتعلّق على وجه الخصوص بوجهات النظر المحلية في مختلف الدول.
1- الحدّ من حرية السياسة المالية
ستتأثر السياسات المالية المحلية بشكل كبير مع ظهور عملة عالمية. لابدّ من أن نضع في الحسبان حقيقة أنّ الظروف السياسية والاقتصادية في دول العالم متباينة. بعض هذه الدول غنية، والبعض الآخر فقيرة. بعضها لديه حكومات ديمقراطية، في حين أنّ البعض الآخر واقع تحت سيطرة أنظمة ديكتاتورية. وفي حال لم تملك الجولة سيطرة تامّة على عملتها، فلن تتمكّن من معالجة مخاوفها الاقتصادية.
على سبيل المثال، قد تحتاج بعض البلدان إلى خفض أسعار الفائدة لمواجهة الاضطرابات الاقتصادية، وهو أمر يستحيل القيام به دون امتلاك سيطرة كاملة على العملة المستخدمة في البلاد. لكن في ظلّ استخدام عملة عالمية، سيتمّ الحدّ من حريّة السياسة المالية.
2- بنك مركزي واحد وسياسة واحدة
في حال استخدام عملة عالمية، سيكون هناك بنك مركزي واحد في العالم، وهو الذي سيتكفّل بصياغة السياسة المالية، التي ستكون واحدة تنطبق على جميع الدول بغضّ النظر عن ظروفها، الأمر الذي سيحول دون معالجة بعض المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها دول محدّدة دون غيرها. إذ لا يمكن بالطبع تحديد أسعار فائدة مختلفة أو مستويات احتياطي مختلفة للبنوك في جميع دول العالم.
3- امتداد المشاكل الاقتصادية في بلد واحد إلى جميع أنحاء العالم
عند استخدام عملة عالمية، سيصبح من السهل أن تؤثر مشكلة اقتصادية في بلد معيّن على كلّ دول العالم. ولعلّ أفضل مثال على ذلك، ما حدث في الاتحاد الأوروبي، إذ امتدّ انهيار الاقتصاد اليوناني والكساد الذي عانت منه إسبانيا والبرتغال في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، وكان له تبعات خطيرة حتى على العمالقة الاقتصاديين الراسخين مثل ألمانيا وفرنسا.
4- خدمة مصالح الدول القوية فقط
سيخدم نظام العملة العالمية مصالح الدول القوية اقتصاديًا فقط على حساب الدول الأصغر. حيث سيكون لها على الأرجح تمثيل أفضل في البنك المركزي العالمي، واليد العليا في صنع السياسة المالية.
بعد التطرّق لإيجابيات وسلبيات استخدام عملة عالمية، نتساءل من جديد، هل يمكن حقًا أن يكون هناك عملة موحدة مستخدمة في جميع أنحاء العالم؟
إنّها فكرة تستحقّ أن نطمح لتحقيقها، إلاّ أنها غير قابلة للتطبيق في ظلّ الظروف الراهنة، فحتى في الاتحاد الأوروبي، لاتزال هناك دول أعضاء ملتزمة باستخدام عملتها الخاصة. بعضها معفاة قانونيًا من ذلك مثل المملكة المتحدة والدنمارك، في حين أنّ بعضها الآخر مثل: بولندا، السويد، المجر، رومانيا، كرواتيا، بلغاريا وجمهورية التشيك، ستبدأ باستخدام اليورو بعد استيفاء شروط محدّدة. إلاّ أنها لا تزال تملك الحق في الإبقاء على عملتها الخاصة.
يمكننا تلخيص الأسباب التي تدفع هذه الدول للعزوف عن استخدام اليورو فيما يلي:
1- الحفاظ على استقلال السياسة النقدية بما في ذلك القدرة على وضع تدابير للسيطرة على التضخم وخفض قيمة العملة.
2- حريَة اتخاذ القرارات بشأن سياسات مواجهة التحديات الخاصة بكل بلد.
3- وجود مقرض مستقل كملاذ أخير وهو البنك المركزي المستقل للبلد الذي لديه عملته الخاصة.
وتنطبق هذه الأسباب على باقي دول العالم في حال تمّ تقرير إنشاء عملة عالمية موحّدة. سيكون من الصعب للغاية إقناع حكومات العالم بدعم هذا القرار نظرًا لأن سلبياته ومخاطره تفوق إيجابياته، في الوقت الحاضر على الأقل.
لربما الحالة الوحيدة التي قد تقترب فيها العملة العالمية من الحقيقة، ستكون بعد نشوء حرب عالمية تقضي على الجزء الأكبر من الكون، تاركة مجموعة ضئيلة من الناجين الذي يرغبون في بناء دولة جديدة كبرى تحت نظام اقتصادي واحد!
فهل تستحقّ منا العملة العالمية هذه التضحية يا ترى؟!
المراجع:
daytranslations.com